بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علما ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الإخوة المؤمنون ... لازلنا في كتاب رياض الصالحين ، واليوم في الباب الذي عنوانه ( فضل قراءة القرآن ) .
قَالَ عُمَرُ : إِنَّ نَبِيَّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ قَالَ : ((إِنَّ اللَّهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الْكِتَابِ أَقْوَامًا وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ)) .
(مسلم)
معنى ذلك كما قلت في الدرس الماضي ، يوم الجمعة ، أن هناك مصادر عدَّة للمعرفة ؛ منها الكون ، ومنها الحوادث ، لكن القرآن معرفةٌ شاملة ، القرآن بيانٌ إلهي ؛ فيه آياتٌ كونية ، وفيه مشاهد ليوم القيامة ، وفيه وعدٌ ووعيد ، وفيه تبشيرٌ وإنذار ، وفيه حِكَم ، وفيه قصص ، وفيه أمثال ، وفيه أخبار ، وفيه مُغَيَّبات ، وفيه أحكام ، إذاً بيان إلهي ، الله عزَّ وجل قال :
( سورة المائدة : من آية " 3 " )
الذي يكملك أيها الإنسان هو كلام الله عزَّ وجل ، أنت مخلوق في أعلى درجات التعقيد ؛ نوازع ، دوافع ، شهوات ، ميول ، إدراك ، طموحات ، فطرة ، صبغة ، كائن من أعقد الكائنات ، لا تعقيد عجز بل تعقيد إبداع ، قد تجد طاولة في بيتك ، هذه الطاولة غير معقدة لوحٌ من الخشب وأربعة قوائم ، لكن قد تفتح جهاز حاسب إلكتروني تجد فيه العجب العجائب ، تقول : يا أخي شيءٌ معقد ، هل تعني بالتعقيد أن الشيء ضعيف؟ لا ، بل تعني بالتعقيد شيء عظيم ، ترى آلاف الصمامات ، التفصيلات ، المؤشرات ، العدادات ، الضوابط تشعر بصداع في الرأس من شدة التعقيد ، تقول : يا أخي شيء معقد ، وتعني بالتعقيد أنه شيء عظيم .
وأنت أيها الإنسان من أعقد المخلوقات في الكون ، أنت الإنسان المخلوق المكرم ، ولأنك مكرم تحتاج إلى تعليمات ، تحتاج إلى منهج ، إلى دستور ؛ افعل ولا تفعل ، لا تنس أيها الأخ الكريم قوله تعالى :
( سورة الإسراء : من آية " 9 " )
إعجاز القرآن في إيجازه ..
أقوم في أي شيء ؟ في كل شيء ، إذا طبَّقت آيات القرآن المتعلقة في الصحة تهتدي إلى صحةٍ طيبة طوال حياتك ، قال تعالى :
( سورة الإسراء : من آية " 31 " )
إذا اهتديت ، وطبقت آيات القرآن الكريم في شأن الزواج ..
( سورة النساء )
آياتٌ كثيرة في الزواج ، في الأولاد ، في التربية ، في التجارة ، في البيع ، في الشراء ، لو طبَّقت آيات القرآن الكريم في كل شؤون حياتك ، لهداك القرآن إلى الحالة المثلى ، إلى التي هي أقوم ..
( سورة الإسراء : من آية " 9 " )
أقول لكم دائماً : ربما كانت التعليمات أهم من الآلة ، ما الذي يؤكد هذا ؟ الآلة المعقدة إن استخدمتها من دون تعليمات خرَّبتها ، وإن خفت عليها من العطب ، وليس معك التعليمات ، وجمَّدت الآلة ، خسرتها ، إذاً التعليمات أخطر من الآلة ، ما الذي يؤكد ذلك ؟ قول الله عزَّ وجل :
( سورة الرحمن )
لماذا قُدَّم تعليم القرآن على خلق الإنسان ؟ لأن التعليمات التي جاءت في هذا القرآن الكريم من الخطورة حيث قدِّمتْ على وجود الإنسان ، فوجود الإنسان من دون هذه التعليمات ، وهذه التوجيهات ، وهذا المنهج ، وجودٌ عابث لا قيمة له ، ما قيمة الإنسان وهو كالشاة العائرة بين الغنمين ؟ ما قيمة الإنسان وهو كالناقة الحرون ؟ ما قيمة الإنسان وهو كالتي تَخْبِط خبط عشواء ؟ راقب الناس ، راقب الضالين ، راقب التائهين ، راقب الشاردين ، تجد الإنسان ضائعًا لا يعرف لماذا هو في الدنيا ، ساعةً يُقبل على لذاته ليقتنصها ، ساعةً يقبل على جمع الدرهم والدينار ، ساعةً يكون مع زيد ، وأخرى مع عبيد ، هذه الحالة ؛ التيه ، والضياع تعبير عن أن هذه الآلة المعقدة ذات الطاقات الكبيرة من دون توجيه ، آلة من دون توجيه ، كيف أن المركبة إذا انطلقت بسرعةٍ عالية ، وليس لها موجه فالدمار محقق ، فإنسان من دون قرآن هلاك ، دمار ، شقاء ، ضياع ، قلق .
لذلك :
القرآن مقدمٌ على وجودك ، لأن وجودك من دون قرآن لا معنى له ، ضياعٌ ، شقاءٌ ، قلقٌ عدوانٌ ، انحرافٌ ، تجاوزٌ ، بغيٌ ، خوفٌ ، يأسٌ ، سوداويةٌ ، هكذا ، فلذلك النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام مسلم ، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أَنَّ النَبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ قَالَ : ((إِنَّ اللَّهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الْكِتَابِ أَقْوَامًا وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ)) .
القضية أولاً بادئ ذي بدء ، لا شيء مقدمٌ عليك ، فقبل أن تهدي الآخرين عليك أن تهدي نفسك .
يا أيها الرجل المعلم غيره هلا لنفسك كان ذا التعليم
ابدأ بنفسك فانهها عن غيها فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
* * *
عندئذٍ إذا قلت يسمع بقولك ، إذا قلت : يقتدى بك ، لأنك جئت بالحقيقة مع البرهان عليها ، البرهان عليه سلوكك ، تطبيقك ، التزامك ، فهذا الحديث خطير ..
((إِنَّ اللَّهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الْكِتَابِ أَقْوَامًا))، يعني إذا قرأت القرآن ، وعرفت ما فيه ، عرفت مضامينه ، عرفت إرشاداته ، عرفت توجيهاته ، عرفت قوانينه ، فكم كنت أتمنى على إخوتنا الكرام أن يقرؤوا القرآن ليكتشفوا القوانين التي جاءت به ، القوانين يعني قواعد ثابتة ، سنن قطعية ، طرائق مُقَنَّنة لا تبدل ، لا تغير ، لا تعدل ، لا تجمد ، لا يضاف عليها ، لا يحذف منها ..
( سورة يونس : من آية " 64 " )
( سورة الكهف : من آية " 27 " )
ما هي كلماته ؟ قوانينه ، لو سألنا الآن : مَن يذكر آية فيها قانون ؟ تعامل ثابت مع الله ، لما خلق الله عزَّ وجل الإنسان وضع له منهجًا ثابتًا ، قواعد صارمة ، مَن يذكر من كتاب الله آية تأخذ معنى القانون ، السنة الثابتة ، القاعدة الأصيلة التي لا تتبدل ، ولا تتغير ولا تُجَمَّد ، ولا تعدل ؟ الآن تكلم أخونا عن آية ، الآية هي قانون التيسير والتعسير ، كل واحد منا إذا بدأ بعمل وجد فيه عقبات ، الطريق مسدود ، تعسيرات ، الجهاز تعطَّل ، الآلة كُسِرَت ، ما وجد شخصًا بعد موعد رسمي ، ركب السيارة من جهة إلى جهة ، سافر إليه فوجده سافر ، ليس هناك شيء أشق على النفس من التعسير ، النبي عليه الصلاة والسلام يقول : ((اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً)) .
(من الأذكار النووية : عن " أنس (
عندما تجد الأمور ميسَّرة بعملك ، ببيتك ، بزواجك ، بعلاقاتك مع إخوانك تشعر براحة كبيرة جداً ، تحس أن الله يحبك ، وإذا جاءت الأمور معسرة ؛ الطريق مسدود ، الطريق خطر الشخص تخلى عنك ، فلان وعدك فأخلف ، اللقاء ما تم ، الوساطة ما نجحت ، تحس بضيق شديد ، لكن هذا الضيق الذي أساسه التعسير ، وهذه الراحة التي أساسها التيسير ألها قانون ؟ هذا هو القانون :
( سورة الليل )
إما أن تكون مسيراً إلى التعسير ، وإما أن تكون مسيراً إلى التيسير ، ثمن التيسير ..
صدَّقت بهذا القرآن ، أو صدقت بهذا الدين ، آمنت به ، تبنَّيته ، وأعطيت مما أعطاك الله عملت الصالحات ، واتقيت أن تعصي الله ، اتقيت أن تعصيه ، يعني استقمت على أمره ، وعملت الصالحات ، وآمنت بالله وبدينه ، هذا ثمن التيسير ..
آثر أن يأخذ لا أن يعطي ، آثر أن يكون أنانياً ..
عن طاعة الله عزَّ وجل ..
لم يعبأ بهذا الدين ، قال : هذا الدين ليس لهذا الزمان ، هذا علامة تخلف ، علامة ضعف ، حالة من حالات الجهل ، هذه غيبيّات ..
هذا قانون ، فإذا أنت أدركت هذا القانون ، وآمنت بالله ؛ خالقاً ، مربياً ، مسيراً ، آمنت بكتابه منهجاً صحيحاً ، قطعي الثبوت ، قطعي الدلالة ، صحيحاً ، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وأعطيت مما أعطاك الله ، ترى الأمور تجري كما تحب ، لذلك هذا قانون .
قانون آخر :
( سورة الانفطار )
إذا وجدت فاجرًا واحدًا في نعيم فالقرآن فيه غلط ، القرآن حق ، الأبرار في نعيم ، نعيمٌ في الدنيا ، ونعيمٌ في الآخرة ، نعيم بهذه الطمأنينة ، نعيمٌ بهذا الاستقرار ، نعيمٌ بهذا الشعور أن الله يحبهم ، نعيمٌ بهذا الشعور أن الله راضٍ عنهم ..
جحيم البُعد ، جحيم القلق ، جحيم المعصية ، جحيم الانحراف ، جحيم العدوان ، جحيم البغي ، جحيم القلق ، في جحيم ، فإذا أردت أن تكون في نعيم فكن باراً ، وإذا خشيت أن تكون في نعيم فلا تكن فاجراً ، هذا قانون ، فأنت عندما تقرأ القرآن الكريم لا تقرأه قراءة هكذا ، هذا القرآن كلام الله عزَّ وجل ، والله أمرنا أن نقرأه وأن نتدبر آياته ، معنى التدبر أن تقف عند الآيات متأنياً ؛ ماذا تعني هذه الآية ؟ ماذا علي أن أفعل تجاهها ؟ ماذا علي أن أقوم ؟ ما الموقف الذي يجب أن أقفه من أجلها ؟
قانون ثالث :
( سورة القصص )
هذه الدار ، هذه الحياة الأبدية ، هذه السعادة الكبرى ، ثمنها لهؤلاء الذين لا يحبون أن يستعلوا على خلق الله ، لا يحبون أن يبنوا مجدهم على أنقاض الآخرين ، ولا أن يبنوا غناهم على فقرهم ، ولا حياتهم على موتهم ، ولا أمنهم على قلقهم ..
الإفساد التفريق بين المؤمنين ، التفريق بين الشركاء ، التفريق بين الأحبة ، التفريق بين الأم وابنها ، الأم وابنتها ، بين الزوج وزوجته ، بين الأخ وأخيه ، بين الصديق وصديقه ، بين الجار وجاره ..
هذا كلام خالق الكون ، كلام المُبْدع ، كلام المصمم ، كلام الذي لا يمكن أن يطرأ على كلامه تغيير ولا تبديل ، فأنت مع القول الثابت ..
( سورة إبراهيم : من آية " 27 " )
ما الذي يجعلك مطمئناً ؟ أنت مطبق لآيات قرآنية قطعية الثبوت ، وربنا عزَّ وجل جاءت من عنده وهو أصدق القائلين ، فيكفي أنك إذا قرأت آيةً كريمة وهي قوله تعالى :
( سورة الجاثية : من آية " 21 " )
يجب أن تشعر في كل دقيقةٍ وفي كل ثانيةٍ أن لك عند الله معاملة خاصة ، لأنك مؤمن ، إن الله يدافع عنك ، وأنت في عنايته ، ورعايته ، وحفظه ، هذا الشعور مسعد ، تشعر بالطمأنينة أن خالق الكون يدافع عنك، خالق الكون يحفظك ، " عبدي أعطيتك مالاً فماذا صنعت فيه ؟ قال : يا رب أنفقته على كل محتاجٍ ومسكين لثقتي بأنك خيرٌ حافظاً وأنت أرحم الراحمين ، قال : أنا الحافظ لأولادك من بعدك " فيعني يكفي أن تدعو وأنت مسافر : ((اللهم أنت الصاحبُ في السفر ، والخليفة في الأهل والمال والولد)) .
هل تستطيع أن تصاحب إنساناً في سفر ، وأن يكون هذا الإنسان في الوقت نفسه خليفةً لك في البيت ؟! مستحيل ، لا يجتمع في بني البشر صاحبٌ ومستخلف ، إن كان مستخلفاً لا يكون صاحباً ، وإن كان صاحباً لا يكون مستخلفاً ، لكن الله سبحانه وتعالى في الوقت ذاته يكون صاحبك في السفر وخليفتك في الأهل والمال والولد ، هذا الشعور أن الله سبحانه وتعالى مكانك في البيت ؛ يرعى أولادك ، يرعى أهلك ، يحفظهم من كل خطر ، وهو معك بالتيسير والتوفيق ، والمعونة ، والإمداد ، هذا شعور مسعد ، الحقيقة أن المؤمن لا يعرف قيمة إيمانه ولا المدى الذي وصل إليه ، ولا الإنجاز الذي حققه ، إلا إذا اطَّلع على أهل الدنيا فرأى ضياعهم ، رأى شقاءهم ، رأى حيرتهم ، رأى سيرهم في طريق مسدود ، رأى ضيقهم ، تبرهم ، انقباضهم ..